سيدنا يوسفُ عليه السَّلام بين الاقتدار والاقتداء |
﴿لَقَد كانَ في قَصَصِهِم عِبرَةٌ لِأُولِي الأَلبابِ ما كانَ حَديثًا يُفتَرى
وَلكِن تَصديقَ الَّذي بَينَ يَدَيهِ وَتَفصيلَ كُلِّ شَيءٍ وَهُدًى وَرَحمَةً
لِقَومٍ يُؤمِنونَ﴾ [سُورَةُ يُوسُفَ: ١١١]
هذه الآيةُ من سورة يوسف، وهي خِتام لفصلٍ متكامل من التاريخ البشري الذي هو واقع
مضى ليس خيالاً ولا أوهاماً ولا أساطير، وإنما جاءتْ هذه القَصص القرآني من أجلِ
العِبرة، والعِبرةُ: هي الاعتبار بما مضى؛ لأنّه لا جديدَ تحت هذه الشمس،
فالعَاقلُ الحَصيف يقيسُ الحاضر على الماضي، ويستنتج مما كان حقيقة ما سيكون
غداً، ويستشرف لمستقبل هذه الأمة، بناءً على الواقع الذي يعيش.
في مكة المكرمة بدأت الدعوة إلى الله على بصيرة،
والنبيُّ ﷺ مع كوكبة من أصحابه يدعون إلى كلمة التوحيد، وينشرون قِيم الحُبّ
والعَدل والخير والجمال، مع ما يلاقونه من عنَتِ قريش، وصَلَف سادتهم وكبرائهم،
فضاقتْ عليهم الدنيا بما رحبتْ، حيثُ نزلت عليهم البَلايا تترى، وأحاطت بهم
الرَّزايا من كلَّ جانب، فنزلت سورة يوسف في مكة بين عام الحزن الذي فَقَدَ فيه
رسول الله ﷺ سنديه الداخلي والخارجي : زوجَه خديجة رضي الله عنها، وعمَّه أبا
طالب، وبين بيعة العقبة الأولى، فكانت سورة يوسف ملحمةَ البلاء، حيث يتجلّى فيها
اقتدار سيدنا يوسف على دفع القدَر بقَدَر، وعلى الصبر والتجلّد في وجه أمواج
البلاء المتلاحقة، والمتنوّعة التي نزلت على شخصية نبيّ من أنبياء الله ، فالمحنة
يعقبها منحة إنْ أحسنَ العبد الطريق السُّنَني في معالجة مشكلات الحياة، مع عميق
الإيمان بالله ربِّ العالمين، المحنة فرصةٌ لتنمّي مهارات التفكير في صُنع حلول
عاجلة، المِحنة قوةٌ تشحذ البصيرة، وتقوّي العزيمة، وتولّد طرائق متعددة في صنع
أيّ جديد نافع .
لقد رأى سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام رؤيا كما
يرى كلُّ الأطفال:﴿إِذ قالَ يوسُفُ لِأَبيهِ يا أَبَتِ إِنّي رَأَيتُ أَحَدَ
عَشَرَ كَوكَبًا وَالشَّمسَ وَالقَمَرَ رَأَيتُهُم لي ساجِدينَ﴾ [سُورَةُ
يُوسُفَ: ٤]، ولَدٌ يقصُّ منامه على أبيه ببراءة الطفولة، فيعلِّمه أبوه قيمةَ
الكِتمان حتى يسلَم من غوائل الثرثرة، ومن الغوغائية، وليكون شاباً رضيّاً عاقلاً
حصيفاً :﴿قالَ يا بُنَيَّ لا تَقصُص رُؤياكَ عَلى إِخوَتِكَ فَيَكيدوا لَكَ
كَيدًا إِنَّ الشَّيطانَ لِلإِنسانِ عَدُوٌّ مُبينٌ﴾ [سُورَةُ يُوسُفَ: ٥]
، ويبدأ مسلسل الابتلاءات بيوسف:
أُخذ يوسف عليه السلام من حضن أبيه: ﴿يَرتَع وَيَلعَب وَإِنّا لَهُ
لَحافِظونَ﴾ [سُورَةُ يُوسُفَ: ١٢] ليجعله الأخوة في أعماق بئرٍ عميق
حتى ينتقموا من أبيهم بأخيهم، من هنا كانت البداية من الجُبّ.
لقد سوَّلت لهم أنفسهم فألقوه في أعماق جُبّ مظلمٍ عميق: ﴿فَلَمّا ذَهَبوا بِهِ
وَأَجمَعوا أَن يَجعَلوهُ في غَيابَتِ الجُبِّ ﴾[سُورَةُ يُوسُفَ: ١٥]،
انتقاماً وحسَداً من عند أنفسهم، وانتصاراً على الطفولة التي ليس لها من أمرها
شيء، سوى أن تنتظر الأقدار لتقوى على سنة التدافع .﴿وَجاءَت سَيّارَةٌ فَأَرسَلوا وارِدَهُم فَأَدلى دَلوَهُ قالَ يا بُشرى هذا
غُلامٌ وَأَسَرّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَليمٌ بِما يَعمَلونَ﴾[سُورَةُ يُوسُفَ: ١٩] ، شاءت الأقدار أن تأتي مارة في الطريق، فاستقوا ماءً،
فخرج يوسف من موت محتّم ليولد من جديد، ولكن ..
بيع عبداً في سُوق العبيد، وهو الكريم بن الكريم: ﴿وَشَرَوهُ بِثَمَنٍ بَخسٍ
دَراهِمَ مَعدودَةٍ وَكانوا فيهِ مِنَ الزّاهِدينَ﴾[سُورَةُ يُوسُفَ: ٢٠]، تصوَّر
كيف تتسارع الأحداث لينتقل من حضن أبيه، إلى أعماق البئر، ليباع في سوق
النِّخاسة، لكن الذي اشتراه :
﴿وَقالَ الَّذِي اشتَراهُ مِن مِصرَ لِامرَأَتِهِ أَكرِمي مَثواهُ عَسى أَن
يَنفَعَنا أَو نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾[سُورَةُ يُوسُفَ: ٢١] هو عزيز مصر ، فأُخذ
يوسف من سوق العبيد والإماء إلى قصر عزيز مصر، ليعيش حياة مختلفة ، يرى فيها نعيم
الدنيا، وحياة الرِّيَاش، وأُبّهة المُلك، ويوسفُ يترعرع ويكبُر وتلمع في عينيه
قوة الفكرة، وقوة البدن، وقوة النَّفس ليجد نفسه تحت عيني امرأة العزيز تراوده عن
نفسه قد شغفها حبّاً.
وهذه فتنة لا يملك زمامها إلا أصحاب العقول والنُهى والنفوس الأبيّة، فتنة الشهوة
والافتتان بالمرأة لا يُطفئ أوارها إلا الإيمان بالله سبحانه: ﴿وَراوَدَتهُ
الَّتي هُوَ في بَيتِها عَن نَفسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبوابَ وَقالَت هَيتَ لَكَ
قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبّي أَحسَنَ مَثوايَ إِنَّهُ لا يُفلِحُ
الظّالِمونَ﴾ [سُورَةُ يُوسُفَ: ٢٣] مع أنه شاب في مرحلة الافتتان والشهوة
الثائرة، وهو غريب لا يعرفه أحد، ومهاجرٌ عن بلده وموطنه وأرضه، وهو عبدٌ مأمور،
لا قولَ له ولا رأي إلا أن يطيع السيد، والآمرة هي سيدته وليّة أمره:
﴿ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبّي أَحسَنَ مَثوايَ إِنَّهُ لا
يُفلِحُ الظّالِمونَ﴾ [سُورَةُ يُوسُفَ: ٢٣] ، من زمن غير بعيد ، يقول العزيز
لامرأته: أَكرِمي مَثواهُ ، فحفظ يوسف تلكم الأمانة والرِّعاية،
فقال : إِنَّهُۥ رَبِّيٓ أَحۡسَنَ مَثۡوَايَ ، أرأيتم قوةَ النفس وحجم الإيمان
وعميق الخشية ، على الفور: قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِۖ ، هذا النفور النفسي
المباشر من غير مداراة لتعلم أنَّ الأمر من أساسه مرفوض وممتنع ، ونفس يوسف تأباه
، ومع ذلك:
﴿وَلَقَد هَمَّت بِهِ وَهَمَّ بِها لَولا أَن رَأى بُرهانَ رَبِّهِ﴾[سُورَةُ
يُوسُفَ: ٢٤] كان الهمّ منها، بالقول تصريحاً، وبالفعل قدّاً للقميص، وكان الهمّ
من سيدنا يوسف عليه السلام مشاعرَ إنسانية مستثارة انضبطت بالخشية من الله
الجليل، وكتمها ببرهان الله ، وكان قولاً : قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِۖ، وفعلاً :
وَٱسۡتَبَقَا ٱلۡبَابَ وَقَدَّتۡ قَمِيصَهُۥ مِن دُبُرࣲ ، وفي هذا المعنى
تتجلّى قدرة سيدنا يوسف، وهو الشاب الغريب العبد المأمور ، لكن نفسه حيّة، وقلبه
متيقظ، وعقله يجوب في آفاق الفكرة النبيلة، فلن تغويه شهوة عابرة، ولن تستوقفه
نزوة غابرة ، فكان من نصاعة براءته شهادة رجل من أهلها: ﴿قالَ إِنَّهُ مِن
كَيدِكُنَّ إِنَّ كَيدَكُنَّ عَظيمٌ﴾[سُورَةُ يُوسُفَ: ٢٨] .
ولما خُيِّر يوسف بين الاستجابة لأمرها وبين أن يسجن : ﴿ قالَ رَبِّ السِّجنُ
أَحَبُّ إِلَيَّ مِمّا يَدعونَني إِلَيهِ وَإِلّا تَصرِف عَنّي كَيدَهُنَّ أَصبُ
إِلَيهِنَّ وَأَكُن مِنَ الجاهِلينَ (٣٣) فَاستَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنهُ
كَيدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّميعُ العَليمُ(٣٤)﴾ [سُورَةُ يُوسُفَ: ٣٣-٣٤].
كانت مرحلة جديدة في حياة يوسف، حيث تحرَّر من ربقة الاستعباد ليكون في زنزانته
حرًّا، يدعوا إلى الله على بصيرة، يصرِّح بتاريخ آبائه، يعقد مقارنة وموازنة بين
عقلية الشرك وبين التوحيد:﴿يا صاحِبَيِ السِّجنِ أَأَربابٌ مُتَفَرِّقونَ خَيرٌ
أَمِ اللَّهُ الواحِدُ القَهّارُ﴾ [سُورَةُ يُوسُفَ: ٣٩]
ثم لك أن تسأل عن سبب نجاته وخروجه من سجنه بعد أن لبث فيه بضع سنين؟ إنه العلم،
العلم بالتأويل، وكان علماً سائداً عصره، وقد أبدع فيه يوسف تحليلاً وتعبيراً،
فخرج بسبب العلم من سجنه إلى سُدّة الحكم ليدير الشؤون الاقتصادية لبلاده ، ولكن
بعد أن استنطق امرأة العزيز ببراءته وطهارة معدِنه :﴿قالَتِ امرَأَتُ العَزيزِ
الآنَ حَصحَصَ الحَقُّ أَنا راوَدتُهُ عَن نَفسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ
الصّادِقينَ﴾[سُورَةُ يُوسُفَ: ٥١]
ثم عاد بذاكرته ليتعامل مع إخوته بالحِيلة والدّهاء، فاستدرجهم جميعاً صاغرين:
﴿وَرَفَعَ أَبَوَيهِ عَلَى العَرشِ وَخَرّوا لَهُ سُجَّدًا وَقالَ يا أَبَتِ هذا
تَأويلُ رُؤيايَ مِن قَبلُ قَد جَعَلَها رَبّي حَقًّا ﴾[سُورَةُ يُوسُفَ: ١٠٠] .
لقد كان سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام هو الأنموذج القدوة في الصبر على
البلاء، وفي إتقان لغة العلم، وفي التعامل مع المشكلات بذكاء ودهاء، وفي عميق
الخشية من الله سبحانه مع الافتقار والتذلل والانكسار له سبحانه ، فكان سيدنا
يوسف جديراً بالتعامل مع المُشكلات بكل اقتدار، وهو الأسوة لكلِّ شاب للاقتداء
. (1)
د. محمد منتصر عوض
__________________________________________
(1) ينظر الدكتور محمد محمد أبو موسى في "من حديث يوسف وموسى في الذكر الحكيم" .